إنَّ تَكْرار الحديث عن شيخ المجاهدين الشيخ الشهيد - بإذن الله، ولا نُزكِّيه على الله - أحمد ياسين، ليس مِن باب تعظيم الرجل، ووضْعه في منزلة أكثر ممَّا يستحق، أو مِن باب اعتبار يوم مقتله عيدًا، أو ما شابه، ولكن مِن باب مدارسة سِيرته ومحطَّات حياته، ومواقفه الصُّلبة، والتعلُّم والاستفادة منها، وتبيانها للناس، فنحن لا نحتفل بذِكْراه فنجعلها مأتمًا، ونفعل ما لا يليق بنا فعلُه.
إنَّ الشيخ أحمد ياسين ليس مجرَّدَ رجل عادي، وليس مجرَّد قائد أو مؤسِّس لحركة إسلامية رائدة في العمل الجهادي، بل هو مفكِّر بارِع، وسياسيٌّ فذٌّ، وهذا ما نحاول إلْقاء الضوء عليه، فنعرف لماذا كان اليهود فرحين جدًّا بموت الشيخ أحمد ياسين، ولماذا أشْرف رئيس الوزراء الصِّهْيوني أرئيل شارون بنفسه على عملية اغتيال رجل، لو دفع كرسيه بقوة لسَقَط على الأرْض ميتًا؟!
كثيرون هم مَن يدَّعون العِلم، وكثيرون هم مَن يستغلُّون عِلمهم في تثبيت أقدام أهلِ البغي والطغيان، وكثيرون هم الذين لم تستفدِ الأمَّة من علمهم شيئًا في أيِّ منحًى مِن مناحي الحياة، كثيرون هم الذين ملؤوا الدنيا صراخًا، لكن على أرْض الواقع تنظر في حالِه فتجده أبعدَ الناس عمَّا يقول، وكثيرون هم مَن خرجوا في أصعبِ الأوقات ليُخذِّلوا الأمَّة عن الجِهاد، وعن نُصْرة المجاهدين، وما حَدَث في وقت العدوان على غزَّة العام الماضي مِن بعض السُّفهاء مدَّعي العِلم خيرُ دليل على ذلك، لكنَّ الشيخ أحمد ياسين استطاع أن يحوِّل عِلْمَه إلى فِكر سياسي وجهادي، ونهضوي وتنظيمي بارِع.
هذا الفِكر الإسلامي الذي استنبطه الشيخُ أحمد ياسين مِن كتاب الله - تعالى - ومِن سُنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومِن سِير الصحابة الكرام ومَن تبعهم - زلزل أركانَ الكِيان الصِّهْيَوني، وجعل أمْنَ ذلك الكيان في خطر، بل جعل الكيان الصِّهيوني بأكمله في خطر.
وليس أدلُّ على ذلك مِن قول رئيس الوزراء الصِّهيوني بعدَ مقتل الشيخ أحمد ياسين، حيث قال ما معناه: "اليوم تستطيعُ إسرائيل العيش في أمان"، فهذه الكلمات التي خرجَتْ من فم رئيس الوزراء الصِّهْيوني تعبِّر عن حالة الذُّعر التي كان يعيشها الكيانُ الصِّهْيوني بسبب الشيخ أحمد ياسين، فالشيخ القعيد الذي لا يحرِّك يدًا ولا قَدَمًا لم يَقبلْ ولم يرضَ لنفسه أن يعيش عاجزًا عن نُصْرة دينه، ولم يرضَ لنفسه أن يرى - وهو معذور بمرَضِه - بلادَه تعيش تحت الاحتلال بينما هو لا يحرِّك ساكنًا.
لم يقفِ الشيخ ليقول للناس: أنا عاجز ضعيف، لا حول لي ولا قوة، لم يقفْ ليقول: أنا لا أملك مِن الأمْر شيئًا، بل إنَّه نظر في سيرة سلفنا الصالح، فوَجَد عمرو بن الجموح - رضي الله عنه وأرضاه - وقد كان أعرجَ يذهب لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يشتكي له أنَّ أولادَه يريدون منْعَه مِن الجهاد، ويقول لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "والله إني لأرجو أن أسْتشهدَ فأطأ بعَرْجتي هذه في الجَنَّة"؛ ذكره البيهقي في "سننه الكبرى" (9/ 24)، والسند فيه أحمد بن عبدالجبَّار، وهو ضعيف.
وإذا كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أخبر عمرَو بن الجموح - رضي الله عنه - في الحديث أنَّ الله - تعالى - وضَعَ عنه الجهادَ لأنَّه أعرجُ، فلا يشكُّ أحد أنَّ الجهاد من باب أوْلى قد وُضِع عن الشيخ أحمد ياسين، ولكنَّ الرجل ذا العزيمة والإرادة يأبَى إلا أن يكون له دَورٌ في نُصرة الإسلام، وفي الدِّفاع عن بيضته، هذه العزيمة نقَلَها إلى أتباعه وتلاميذه، فصنعتْ منهم رجالاً لا يخشَوْن في الحق لومةَ لائم؛ رجالاً يحرصون على الشهادة كما يحرِص غيرُهم على الحياة، فهانتْ عليهم أنفسُهم، وارتفع شأنُ الإسلام في نفوسهم، فأقدموا على الموتِ في شجاعةٍ ليس لها مثيل، فغيَّروا ميزان الرُّعب، فصار الجُندي الصِّهْيوني الذي يحمل أحدثَ الأسلحة يفرُّ مِن مواجهة طِفل يحمل حجرًا صغيرًا!!
ونَظَر الشيخ - رحمه الله تعالى - إلى سِيرة العلماء، فوَجَد العِزَّ بنَ عبدالسلام يواجه ملوكَ الشام ومصر، ويقف أمامَهم معلنًا موقفَه، صادعًا بكلمة الحق، ويجد الإمام تقيَّ الدين بن تيميَّة - رحمه الله - يقف أمامَ مَلِك التتار في تحدٍّ عجيب، وقد دعاه إلى الطعام هو ومجموعة مِن العلماء، ويقول له بصوت المؤمِن القويِّ الواثق في ربه: "هذا الطعام مِن أموال المسلمين التي نَهبَها جنودُك"، أمَّا مَن كان معه فقد أكلوا مِن الطعام، فأبى الشيخ ياسين إلاَّ أن يكون على خُطا ابن عبدالسلام وابن تيمية، فكان بحقٍّ خيرَ خَلَف لخير سَلَف، في الوقت الذي ارتضى غيرُه مِن صِحاح الجسد وأهل العلم أن يبحثوا عن أعذار لصمْتهم وقعودهم عن الجِهاد.
ببساطة الشيخ أحمد ياسين ترجَم سِيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه الكرام ومَن تبعهم مِن العلماء والمجاهدين إلى أفعال وأحداث، وفِكْر ومنهج، فرَحِم الله الشيخَ، وجعل الجنة مثواه.