كان دائمًا يصرُخ بأعلى صوته، محذِّرًا منبِّهًا أنَّ المسجد الأقصى في خطر، جابَ الآفاق دِفاعًا عن الأقصى، سافَر وتنقَّل ووقَف أمام الجنود الصهاينة صارِخًا فيهم، يتكلَّم بكلِّ لغةٍ يُجِيدها، محدِّثًا الناسَ بقيمة ومكانة ومنزلة المسجد الأقصى، عاشَ حياته كلَّها وهو يُدافِع عن المسجد الأقصى، حتى ارتَبَط اسمه به، وصار لقبًا أطلَقَه عليه محبُّوه ومُرِيدوه.
إنَّه الشيخ المجاهد "رائد صلاح" شيخ الأقصى، رئيس الجناح الشمالي للحركة الإسلاميَّة في الأراضي الفلسطينيَّة المحتلَّة عام 1948م، الرجل الذي لم نرَه يتكلَّم إلا مُدافِعًا عن المسجد الأقصى، صوته مميَّز قوي يجهَر به دِفاعًا عن أثَر عظيم من آثار المسلمين، ورمز من رموز عزَّتهم، ودليل من دلائل قوَّتهم، فهو رجلٌ بسيط يَعِيش في مسكن مُتواضِع، ليس ممَّن يَتباهَى بأنَّه يركب السيارات الفارهة، بل إن نظرت إليه وأنت لا تعرفه فستقول بلا تردُّد: إنَّه رجل من عوامِّ الناس!
حاوَل الصهاينة مِرارًا وتكرارًا أن يُبعِدوه عن القدس وعن المسجد الأقصى - بالسجن مرَّة، وبفرْض الإقامة الجبريَّة مرَّة أخرى، وبالإبعاد مرَّة ثالثة - لكن كل هذا لم ينجح، فلا يَزال يتصدَّر المشهَد، ولا يَزال يتصدَّر الشبابَ المجاهدِين للدِّفاع عن الأقصى، هو القائد الأساس لهم؛ هو الذي يحشدهم ويجمَعهم، ويوجِّههم وينصَحهم، كلمته مؤثِّرة في الجميع، الصغير والكبير يحبُّه، وهو يَتعامَل مع الجميع بلطفٍ وحَنان وأدب جَمٍّ.
إنَّه رجلٌ لا يختَلِف عليه اثنان من المُخلِصين في هذه الأمَّة الإسلاميَّة، مهما اختَلفت توجُّهاتهم وأفكارهم، فهو رجل يجمّع ولا يفرِّق، إذا تحدَّث سكَت الجميع، وإذا قال كلمةً صدَّقَها الجميع؛ ليس لأنَّه معصوم من الخطأ، بل لأنَّه نأَى بنفسه عن الولوج في كلِّ ما فيه شبهةٌ، وكلِّ ما يُثِير فتنة، لم يُدخِل نفسه في صِراعات سياسيَّة، ولم يكن ذات يومٍ من علماء السلاطين، لا يعرف المهادنة ولا النِّفاق، لا يعرف سبيل المتاجرة بآلام الناس وقضاياهم، فلهذا حديثه مُصَدَّق من الجميع، وهو محلُّ احتِرامٍ من الجميع إلا المنافقين والعُمَلاء والجبناء والخوَنَة الذين باعُوا أنفسَهم ودينَهم وأهليهم بثمن بخس.
ولأنَّه من العلماء الربانيين - نحسَبه كذلك ولا نُزَكِّيه على الله مولاه - فقد أبى إلاَّ أن يضرب مثلاً للعلماء، يُؤَكِّد لهم فيه أنَّ العالِم الحقَّ ليس مكانه الفضائيَّات أو المساجد أو المحاريب فقط، وليست وسيلته الخطبة أو المحاضرة أو المقالة فقط، بل إنَّ العالِم الحقَّ هو الذي يتصدَّر صُفُوف الأُمَّة في رفْع الظلم، وفى رفْض البغي والطغيان، يقول لهم: إنَّ العالِم الحقَّ هو الذي يعيش بين الناس يشعُر بهم ويشعُرون به، يقول: إنَّ العالِم الحقَّ هو الذي يصدَع بالحق ولا يخشى في الله لومة لائم، يَقول لهم: إنَّ الأمَّة لن تَرحَم هؤلاء الصامِتين وستتعلَّق برقابهم يوم القيامة؛ لأنهم كتموا الحقَّ ولم يبيِّنوه للناس، ولأجل هذا ولأسبابٍ أخرى كثيرة، فقد شارَك الشيخ الجليل - حفظه الله تعالى من كلِّ سوء - في قافلة أسطول الحريَّة التي كانت متوجِّهة إلى قِطاع غزة لرفْع الحِصار الظالم المفروض عليه منذ أربع سنوات، مع علم الشيخ أنَّ هذا الأمر لن يَتهاوَن فيه الكيان الصهيوني أبدًا، وأنَّه قد يجد السجن بانتِظاره على أقل تقدير.
ولأنَّ الكيان الصهيوني ليس إلا مجموعة من العِصابات الإجراميَّة التي تُمارِس الإرهاب المُقَنَّن دوليًّا، فقد قامت باقتِحام سفن الأسطول، وقد حاولوا قتل الشيخ - حفِظَه الله من كلِّ سوءٍ ورَدَّ كيدَ اليهود في نحرهم - وأطلقوا النار بالفعل على رجلٍ شبيهٍ بالشيخ، وظنُّوا أنَّ الشيخ قد مات، وبقينا نتلمَّس الأخبار عن الشيخ طيلة ذلك اليوم الحزين، حتى طمأنتْنا النائبة العربيَّة بالكنيست الصهيوني حنين زعبي.
ولكن محاولة اغتِيال الشيخ على متن السفينة، وهذا الارتِباك الذي حدَث لمؤسَّسة الجيش الصهيوني عندما اكتَشفوا أنَّ الشيخ لا يزال حيًّا يُرزَق، وذهاب رئيس الأركان بنفسه للتأكُّد من الأمر - يدلُّ على أنَّ قرار اغتِيال الشيخ الجليل قد اتُّخِذ فعلاً، وأنَّ اليهود الجُبَناء جادُّون في الأمر، ويُرِيدون التخلُّص من الشيخ حتى يستطيعوا إكمال تنفيذ مخطَّطاتهم بشأن تهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم، ولقد أعلَن الشيخ رائد صلاح أنَّ هناك فتوى يهوديَّة صدرت بقتله.
يجب ألاَّ يقلِّل أحدٌ من خطورة ما حدَث على متن السفينة، ويجب ألاَّ يقلِّل أحدٌ من خطورة الإقدام على اغتِيال الشيخ رائد صلاح، فهذا الرجل قامَة فكريَّة وعلميَّة وحركيَّة كبيرة، واغتياله هو - بلا شكٍّ - خسارة كبيرة، ليس للفلسطينيِّين وحدَهم؛ بل للأمَّة الإسلاميَّة جمعاء، فالرجل هو من الرجال الموسوعيين، المُدرِكين بحقٍّ لحقيقة اليهود، يعرف أساليبهم وخِدَعَهم، يعرف كيف يفكرون وإلامَ يخطِّطون؟
إنَّ الشيخ رائد صلاح لا يمثِّل نفسَه فقط، بل هو يمثِّل أمَّة بأكملها، بل هو يمثِّل نهجًا عظيمًا؛ ولهذا فاليهود يُرِيدون التخلُّص منه، ظنًّا منهم أنَّه بوَفاته ستَستقِيم لهم الأمور، كما قاموا من قبل باغتِيال الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله تعالى - كي يتخلَّصوا بمقتله من المقاومة الإسلاميَّة المسلَّحة، فاليهود لا يُدرِكون أنَّ العقائد والأفكار لا تتأثَّر بموت الأشخاص، وإن كان هؤلاء الأشخاص سيتركون فراغًا كبيرًا قد لا يملؤه مَن يُولَّى الأمر من بعدهم، إلا أنَّ القافلة ستستمرُّ ولن تتوقَّف، وكما أنهم فشلوا بعون الله في القضاء على نهج المقاومة عندما وجَّهوا ضربات قاتلة لحركة حماس ولغيرها، وقاموا باغتيال أهمِّ رموز وقادة المقاومة، فإنهم - بإذن الله - سيَفشَلون في القَضاء على نهج الجِهاد والمقاومة في الأراضي الفلسطينيَّة المحتلَّة عام 1948م، ولسوف تبقَى شعلةُ الجِهاد مشتعلَة، حتى وإن استَطاع اليهود التخلُّص من كلِّ قادة الحركة الإسلاميَّة